د. عبدالناصر سلم حامد مدير برنامج شرق إفريقيا والسودان – مركز فوكس للأبحاث (السويد)
في غضون ثلاث سنوات فقط، تحوّلت مالي من ساحة اضطراباتٍ محدودة إلى بؤرةٍ مركزية في صراع النفوذ الدولي داخل منطقة الساحل. ما يجري في باماكو اليوم ليس حربًا تقليدية تُقاس بخطوط الجبهة أو بعدد الضحايا، بل حرب ظلٍّ متعددة الطبقات تدور بين جماعاتٍ متشددةٍ مرتبطة بتنظيم القاعدة من جهة، وشبكات المرتزقة الروسية المعروفة باسم «فاغنر» من جهة أخرى، بينما تقف الدولة المالية بينهما متعبةً ومنهكةً، تبحث عن شرعيةٍ مفقودة وأمنٍ هشّ.
الحرب في باماكو تُخاض بصمتٍ أكثر مما تُخاض بالسلاح. فالجماعات المتشددة، وعلى رأسها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (الفرع المحلي لتنظيم القاعدة)، اعتمدت تكتيكًا جديدًا يقوم على خنق المدن من أطرافها، واستنزاف الحكومة عبر ضرب طرق الإمداد وقطع شرايين الحياة الاقتصادية. مع حلول خريف هذا العام، عاشت العاصمة أزمة وقود خانقة أدّت إلى شللٍ في المواصلات وإغلاقٍ لعددٍ كبير من المدارس والمراكز الصحية، في تكرارٍ متعمدٍ لأسلوب «تجويع الدولة» الذي تستخدمه التنظيمات المتطرفة للضغط على الأنظمة الهشّة وإظهارها عاجزة أمام مواطنيها.
في المقابل، صعد الدور الروسي في المشهد المالي بشكلٍ غير مسبوق منذ عام 2021، حين بدأت وحدات «فاغنر» بالانتشار في البلاد بعقودٍ أمنية موقعة مع المجلس العسكري الحاكم. قدّمت موسكو نفسها كحليفٍ بديلٍ لفرنسا في الحرب على الإرهاب، لكنّ حضورها لم يكن فقط أمنياً، بل اقتصادياً كذلك، من خلال السيطرة على مواقع التعدين واستثمار موارد الذهب والمنغنيز مقابل خدمات الحماية والتدريب. ومع الوقت، تحوّلت فاغنر إلى لاعبٍ داخليٍ مؤثّر، يتحرك بمعزلٍ عن الدولة، ويفرض إيقاعه على قرارات القيادة في باماكو، بل ويتدخل في رسم خريطة الولاءات داخل الجيش نفسه.
لكنّ هذا النفوذ الروسي واجه بدوره مأزقًا متصاعدًا. فبينما كانت موسكو تراهن على «استقرارٍ بالقوة»، تكاثرت التقارير التي تتحدث عن انتهاكاتٍ واسعةٍ ارتكبتها عناصر فاغنر في القرى الشمالية والوسطى، من إعداماتٍ ميدانية إلى عمليات اختفاءٍ قسري ونهبٍ للممتلكات. هذه التجاوزات لم تُضعف فقط صورة روسيا أمام الشارع المالي، بل أعادت إلى الأذهان نماذج النفوذ الاستعماري القديم، ما جعل فاغنر تواجه عداءً صامتًا من السكان الذين لم يلمسوا تحسنًا في حياتهم رغم الوعود الكبيرة بالأمن والتنمية.
في عمق هذه الحرب الصامتة يتصارع نموذجين متناقضين للسيطرة: نموذج «الهيمنة الميدانية» الذي تتبناه القاعدة عبر التغلغل في القرى والمجتمعات المحلية بوسائل دينية واجتماعية، ونموذج «النفوذ الخارجي» الذي تمثله فاغنر عبر عقود الأمن والموارد. الأول يعتمد على بناء شرعيةٍ من الأسفل، مستندًا إلى خدماتٍ اجتماعية بدائية، والثاني يعتمد على فرض سلطةٍ من الأعلى، مدعومةٍ بالسلاح والمال والارتباط السياسي. وكلا النموذجين يتغذّى على ضعف الدولة وانقسامها الداخلي.
ففي باماكو، تبدو السلطة العسكرية الحاكمة أسيرةً لتناقضاتها. الانقسامات بين ضباط الجيش، وتضارب المصالح بين من يرتبطون بعقودٍ مع الروس ومن يسعون لعلاقاتٍ مع الغرب، جعلت المؤسسة الحاكمة بلا بوصلة واضحة. بعض التقارير تحدّثت عن صداماتٍ غير معلنة بين ضباطٍ ماليين ومستشارين روس بسبب قضايا مالية أو ميدانية، وهو ما يهدد بتآكل الثقة داخل منظومة الحكم نفسها. ومع تصاعد الهجمات في الشمال وتدهور الوضع الاقتصادي، يزداد اعتماد النظام على الشركاء الأجانب، فيتحوّل الأمن إلى سلعةٍ تُشترى وتُباع.
على الصعيد الدولي، مثّل انسحاب القوات الفرنسية من مالي عام 2022 نقطة تحوّلٍ خطيرة. فخروج باريس لم ينهِ الصراع بل فتح الباب أمام سباق نفوذٍ جديد. الولايات المتحدة تراقب بحذر، والاتحاد الأوروبي يراجع مواقفه، بينما تتطلّع روسيا لتعزيز موطئ قدمها في الساحل كجزءٍ من استراتيجيتها الأوسع في إفريقيا. هذا التحوّل جعل مالي ساحة اختبارٍ بين قوى كبرى، تتقاطع فيها مصالح أمنية واقتصادية ودعائية. فاغنر بالنسبة لموسكو ليست مجرد شركة مرتزقة، بل أداة دبلوماسية بديلة تُستخدم لتوسيع المجال الروسي في مواجهة الغرب، فيما ترى الجماعات المتطرفة في ذلك فرصةً لتقديم نفسها كقوة «تحريرٍ محلية» ضد النفوذ الأجنبي.
وفي خضمّ هذا التزاحم، يدفع المواطن المالي الثمن الأكبر. القرى المحاصَرة في الشمال تعيش تحت رحمة المسلحين، والعاصمة تعاني من نقص الغذاء والوقود، بينما تتسع الفجوة بين الدولة والمجتمع. المدارس تغلق، الأسواق تفرغ من السلع، وحركة النقل بين المدن باتت مغامرة قد تنتهي على أيدي جماعةٍ مسلحة أو حاجزٍ تابع لفصيلٍ مجهول الولاء. لقد تحولت الحياة اليومية في مالي إلى اختبارٍ للبقاء، يتشارك فيه الخوف من «القاعدة» مع الارتياب من «فاغنر».
ورغم الصورة القاتمة، لا تزال هناك نوافذ أمل. فنجاح أي تسويةٍ مستقبلية يعتمد على إعادة بناء العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، لا على استيراد الأمن من الخارج. المطلوب مشروع وطني يواجه التطرف بالتنمية، ويستعيد ثقة المواطن من خلال الشفافية والمساءلة. كما أن الدور الإقليمي للاتحاد الإفريقي ومجموعة الإيكواس يمكن أن يشكّل توازنًا ضروريًا يحدّ من انفراد القوى الكبرى بملف مالي، شريطة أن يكون التدخل مدنيًا لا عسكريًا، تنمويًا لا استعراضيًا.
ختامًا، يمكن القول إنّ الحرب الصامتة في باماكو هي مرآةٌ لواقعٍ إفريقيٍ جديدٍ يتشكّل بعيدًا عن الأضواء: صراعٌ بين جماعاتٍ مسلحة تملك خطابًا دينيًا وقدرةً ميدانية، وقوى أجنبية تملك المال والتقنيات، ودولةٍ تبحث عن نفسها وسط الركام. إنّ مستقبل مالي لن يُحسم في ساحة المعركة، بل في قدرتها على إعادة تعريف مفهوم السيادة والأمن في زمنٍ تتقاطع فيه البنادق مع المصالح، والظلّ مع النفوذ.



138
_2fuh6yrz.jpg)

_fmxxgd6n.jpg)










